فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس، قال: أتى رسول الله سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وأبو أنس، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف، فقالوا: كيف نتبعك وقت تركت قبلتنا وأنت لا تزعم عزير ابن الله؟ فأنزل الله: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله} الآية.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عنه، قال: كنّ نساء بني إسرائيل يجتمعن بالليل فيصلين ويعتزلن ويذكرن ما فضل الله به بني إسرائيل وما أعطاهم، ثم سلط عليهم شرّ خلقه بختنصر، فحرق التوراة وخرّب بيت المقدس، وعزير يومئذ غلام، فقال عزير: أو كان هذا؟ فلحق بالجبال والوحش، فجعل يتعبد فيها، وجعل لا يخالط الناس، فإذا هو ذات يوم بامرأة عند قبر وهي تبكي، فقال: يا أمه اتقي الله واحتسبي واصبري، أما تعلمين أن سبيل الناس إلى الموت؟ فقالت: يا عزير أتنهاني أن أبكي، وأنت قد خلفت بني إسرائيل، ولحقت بالجبال والوحش؟ ثم قالت: إني لست بامرأة ولكني الدنيا، وإنه سينبع في مصلاك عين وتنبت شجرة، فاشرب من ماء العين وكل من ثمر الشجرة، فإنه سيأتيك ملكان فاتركهما يصنعان ما أرادا، فلما كان من الغد نبعت العين ونبتت الشجرة، فشرب من ماء العين وأكل من ثمرة الشجرة، وجاء ملكان ومعهما قارورة فيها نور فأوجراه ما فيها فألهمه الله التوراة، فجاء فأملاه على الناس، فعند ذلك قالوا عزير ابن الله، تعالى الله عن ذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه، أيضًا فذكر قصة وفيها: أن عزير سأل الله بعد ما أنسى بني إسرائيل التوراة ونسخها من صدورهم، أن يردّ الذي نسخ من صدره، فبينما هو يصلي نزل نور من الله عزّ وجلّ فدخل جوفه، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة، فأذن في قومه فقال: يا قوم قد آتاني الله التوراة وردّها إليّ.
وأخرج أبو الشيخ، عن كعب، قال: دعا عزير ربه أن يلقي التوراة كما أنزل على موسى في قلبه، فأنزلها الله عليه، فبعد ذلك قالوا: عزير ابن الله.
وأخرج ابن مردويه، وابن عساكر، عن ابن عباس، قال: ثلاث أشك فيهن: فلا أدري عزير كان نبيًا أم لا؟ ولا أدري ألعن تبع أم لا؟ قال: ونسيت الثالثة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه، في قوله: {يضاهئون} قال: يشبهون.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، في قوله: {قاتلهم الله} قال: لعنهم الله، وكل شيء في القرآن قتل فهو لعن.
وأخرج ابن سعد، وعبد بن حميد، والترمذي وحسنه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن عدي بن حاتم، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في سورة براءة {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَابًا مّن دُونِ الله} فقال: «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرّموا عليهم شيئًا حرّموه». وأخرجه أيضًا أحمد وابن جرير.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في سننه، عن أبي البحتري قال: سأل رجل حذيفة فقال: أرأيت قوله: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَابًا مّن دُونِ الله} أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرّموا عليهم شيئًا حرّموه.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الضحاك، قال: أحبارهم: قراؤهم، ورهبانهم: علماؤهم.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج، قال: الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ مثله.
وأخرج أيضًا عن الفضيل بن عياض قال: الأحبار: العلماء، والرهبان: العباد.
وأخرج أيضًا عن السديّ في قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم} قال: يريدون أن يطفئوا الإسلام بأقوالهم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك في قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم} يقول: يريدون أن يهلك محمد وأصحابه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن قتادة، في الآية قال: هم اليهود والنصارى.
وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى} يعني: بالتوحيد والإسلام والقرآن. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ}
فَوَصَفَ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ بَيَّنَ حُكْمَ قِتَالِهِمْ أَرْبَعَ صِفَاتٍ سَلْبِيَّةٍ هِيَ عِلَّةُ عَدَاوَتِهِمْ لِلْإِسْلَامِ، وَوُجُوبِ خُضُوعِهِمْ لِحُكْمِهِ فِي دَارِهِ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَهُمْ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، وَحَمْلِ السِّلَاحِ فِيهِ يُفْضِي إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِهِمْ أَوْ مُسَاعَدَةِ مَنْ يُهَاجِمُهُمْ فِيهَا كَمَا فَعَلَ يَهُودُ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا بَعْدَ تَأْمِينِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُمْ وَجَعَلَهُمْ حُلَفَاءَ لَهُ، وَسَمَحَ لَهُمْ بِالْحُكْمِ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِشَرْعِهِمْ فَوْقَ السَّمَاحِ لَهُمْ بِأُمُورِ الْعِبَادَةِ، وَكَمَا فَعَلَ نَصَارَى الرُّومِ فِي حُدُودِ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ كَمَا يَأْتِي عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي أُسْنِدَ إِلَيْهِمْ تَرْكُهَا هِيَ أُصُولُ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ عِنْدَ كُلِّ أُمَّةٍ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي آيَةِ [2: 62] وَقَدْ أَمَرَ هُنَا بِقِتَالِ الَّذِينَ لَا يُقِيمُونَهَا عِنْدَمَا يَقُومُ السَّبَبُ الشَّرْعِيُّ لِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ بِشَرْطِهَا فَذَكَرَ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَوَضَعَ تَرْكَهُمْ لِتَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَتَرَكَ الْخُضُوعَ لِدِينِ الْحَقِّ فِي مَوْضِعِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ تِلْكَ الْآيَةِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ.
وَإِنَّكَ تَرَى فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمُتَدَاوَلَةِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَخْ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا نَصٌّ فِي ذَلِكَ، وَغَرَضُهُمْ مِنْ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَيْسَتْ قُيُودًا فِي شَرْعِيَّةِ قِتَالِهِمْ بَلْ هِيَ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ لَا مَفْهُومَ لَهَا، فَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ إِذَا وَجَدَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيُحَرِّمُ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَيْهِمْ- عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّسُولِ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمْ رَسُولُهُمْ، وَيَدِينُ دِينَ الْحَقِّ بِاعْتِقَادِهِمْ- فَإِنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَقَالُوا: إِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ دَلَّتْ آيَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى إِقَامَتِهِمْ لِأَرْكَانِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لِأَنْبِيَائِهِمْ فِي زَمَانِهِمْ، أَوْ قَبْلَ تَحْرِيفِهِمْ لِكِتَابِهِمْ، وَالِابْتِدَاعِ فِي دِينِهِمْ حَتَّى الشِّرْكِ، أَوِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا خَاتَمَ الرُّسُلِ الَّذِي نَسَخَ كِتَابُهُ الْكُتُبَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالشَّرَائِعَ الْمُخَالِفَةَ لِشَرْعِهِ بَعْدَ بِعْثَتِهِ وَبُلُوغِ دَعْوَتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْأَقْوَالَ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ، وَصَرَّحَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ بِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةَ قُيُودٌ تُشْتَرَطُ فِي قِتَالِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ فَاقِدُونَ لَهَا، فَإِنْ وُجِدَ مِنْهُمْ قَوْمٌ مُتَّصِفُونَ بِهَا حَرُمَ عَلَيْنَا بَدْؤُهُمْ بِالْقِتَالِ.
فَأَمَّا الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى، فَقَدْ شَهِدَ الْقُرْآنُ بِأَنَّ الْفَرِيقَيْنِ فَقَدُوهُ بِهَدْمِ رُكْنِهِ الْأَعْظَمِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ، فَإِنَّهُمُ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ يُشَرِّعُونَ لَهُمُ الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالَ وَالْحَرَامَ فَيَتْبَعُونَهُمْ، وَذَلِكَ حَقُّ الرَّبِّ وَحْدَهُ، فَقَدْ أَشْرَكُوهُمْ بِهِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَشْرَكَ فِي الْأُلُوهِيَّةِ، كَالَّذِينِ قَالُوا: عُزَيْرُ ابْنُ اللهِ، وَالَّذِينَ قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ أَوْ هُوَ اللهُ، وَسَيَأْتِي هَذَا وَذَاكَ فِي هَذَا السِّيَاقِ مِنَ السُّورَةِ.
وَقَدْ تَوَسَّعَ الرَّازِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ بِأَسَالِيبِهِ الْكَلَامِيَّةِ فَقَالَ: التَّحْقِيقُ أَنَّ أَكْثَرَ الْيَهُودِ مُشَبِّهَةٌ، وَالْمُشَبِّهُ يَزْعُمُ أَنْ لَا مَوْجُودَ إِلَّا الْجِسْمُ وَمَا يَحِلُّ فِيهِ، فَأَمَّا الْمَوْجُودُ الَّذِي لَا يَكُونُ جِسْمًا وَلَا حَالًّا فِيهِ فَهُوَ مُنْكِرٌ لَهُ، وَمَا ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ أَنَّ الْإِلَهَ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا حَالًّا فِي جِسْمٍ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُشَبِّهُ مُنْكِرًا لِوُجُودِ الْإِلَهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْيَهُودَ مُنْكِرُونَ لِوُجُودِ الْإِلَهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْيَهُودُ قِسْمَانِ مِنْهُمْ مُشَبِّهَةٌ وَمِنْهُمْ مُوَحِّدَةٌ، كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَذَلِكَ، فَهَبْ أَنَّ الْمُشَبِّهَةَ مِنْهُمْ مُنْكِرُونَ لِوُجُودِ الْإِلَهِ، فَمَا قَوْلكُمْ فِي مُوَحِّدَةِ الْيَهُودِ؟ قُلْنَا: أُولَئِكَ لَا يَكُونُونَ دَاخِلِينَ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَكِنَّ إِيجَابَ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُقَالَ: لَمَّا ثَبَتَ وُجُوبُ الْجِزْيَةِ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ فِي حَقِّ الْكُلِّ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. انْتَهَى بِنَصِّهِ.
وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي سَمَّاهُ تَحْقِيقًا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ التَّحْقِيقِ، وَلَا مِنَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَظَرِيَّاتٌ كَلَامِيَّةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اصْطِلَاحَاتِ جَمَاعَةِ الْأَشَاعِرَةِ حَتَّى فِي الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ، فَالْجِسْمُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الشَّيْءُ الْجَسِيمُ الضَّخْمُ، وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: هُوَ كُلُّ شَخْصٍ مُدْرِكٍ وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْجِسْمُ الْجَسَدُ، وَفِي التَّهْذِيبِ مَا يُوَافِقُهُ، قَالَ: الْجِسْمُ مُجْتَمَعُ الْبَدَنِ وَأَعْضَاؤُهُ مِنَ النَّاسِ وَالْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ وَنَحْوُ ذَلِكَ، مِمَّا عَظُمَ مِنَ الْخَلْقِ الْجِسِيمِ انْتَهَى مِنَ الْمِصْبَاحِ. وَالْيَهُودُ لَا يَقُولُونَ بِأَنَّ الْإِلَهَ جِسْمٌ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَتَعْرِيفُهُ لِلْجِسْمِ بِمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ صَحِيحِ لُغَةً وَلَا اصْطِلَاحًا، وَالْإِلَهُ فِي اللُّغَةِ الْمَعْبُودُ، وَالْيَهُودُ لَا تُنْكِرُ وُجُودَ الْمَعْبُودِ، وَاللهُ هُوَ الرَّبُّ الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَالْيَهُودُ يُثْبِتُونَ هَذَا، وَأَنَّهُ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَكِنَّ لَهُمْ أَفْهَامًا، فِي نُصُوصِ التَّوْرَاةِ يَخْتَلِفُونَ فِيهَا كَالْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهَا مَا ظَاهِرُهُ التَّشْبِيهُ، وَالَّذِينَ يُسَمِّيهِمُ الْمُجَسِّمَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَيْسُوا مُجِسَّمَةً بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ، وَإِنَّمَا يُسَمِّيهِمْ هُوَ وَأَمْثَالُهُ مُجَسِّمَةً؛ لِمُخَالَفَتِهِمْ لِأَمْثَالِهِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي إِثْبَاتِ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ بِلَا تَأْوِيلٍ، وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَهُوَ مِنْ مُتَكَلِّمِي التَّأْوِيلِ الَّذِي يُكَفِّرُونَ مَنْ يُخَالِفُهُمْ فِي بَعْضِ تَأْوِيلَاتِهِمْ لَهَا بِدَعْوَى أَنَّ عَدَمَ تَأْوِيلِهَا يَسْلَتْزِمُ كَوْنَهُ تَعَالَى جِسْمًا، وَهِيَ دَعْوَى بَاطِلَةٌ وَلَازِمُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَوْ لَمْ يُصَرِّحْ صَاحِبُهُ بِنَفْيِ اللُّزُومِ، فَكَيْفَ إِذَا صَرَّحَ بِهِ كَالسَّلَفِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ يَنْبِزُهُمْ أَمْثَالُهُ بِلَفْظِ الْمُجَسِّمَةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى، وَتَأْوِيلَاتُ أَمْثَالِهِ لِلْكَثِيرِ مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ قَدْ تَسْلَتْزِمُ التَّعْطِيلَ أَوْ تَخْطِئَةَ التَّنْزِيلِ أَوْ قُصُورَهُ عَنْ بَيَانِ عَقَائِدِ الدِّينِ وَأُصُولِهِ بِدُونِ كَلَامِهِمُ الْمُبْتَدَعِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ حَرَّمَ قِرَاءَتَهَا عَلَى الْعَوَامِّ كَمَا أَنْزَلَهَا اللهُ تَعَالَى غَيْرَ مَقْرُونَةٍ بِتَأْوِيلٍ يُخْرِجُهَا عَنْ مَدْلُولِ لُغَةِ الْقُرْآنِ، فَإِنْ كَانَ لَازِمَ الْمَذْهَبِ مُطْلَقًا فَهُمُ الْكَافِرُونَ.
وَهُوَ قَدِ انْتَقَلَ مِنْ بَحْثِهِ فِي الْيَهُودِ، وَاخْتِلَافِهِمْ فِي فَهْمِ صِفَاتِ الْإِلَهِ إِلَى اخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ، مُبْتَدِئًا بِالِاعْتِرَافِ بِأَنَّ حَاصِلَ كَلَامِهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ نَازَعَ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللهِ كَانَ مُنْكِرًا لِوُجُودِ اللهِ تَعَالَى. (قَالَ) وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ تَقُولُوا: إِنَّ أَكْثَرَ الْمُتَكَلِّمِينَ مُنْكِرُونَ لِوُجُودِ اللهِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَضَرَبَ الْأَمْثَالَ أَوَّلًا فِي اخْتِلَافِ أَصْحَابِهِ الْأَشْعَرِيَّةِ ثُمَّ فِي اخْتِلَافِ غَيْرِهِمْ، وَتَحَكَّمَ فِي التَّكْفِيرِ لِبَعْضِ الْمُخْتَلِفِينَ دُونَ بَعْضٍ بِالنَّظَرِيَّاتِ الْكَلَامِيَّةِ الْبَاطِلَةِ. وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا كَلَامَهُ لِتَنْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ إِضَاعَةِ الْوَقْتِ فِي مَثَلِهِ، وَفِيمَا رَتَّبَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْمُتَعَارِضِ، وَهُوَ زَعْمُهُ أَنَّ غَيْرَ الْمُجَسِّمَةِ مِنَ الْيَهُودِ لَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقِتَالِ، وَلَكِنْ يَدْخُلُونَ تَحْتَهَا فِي إِيجَابِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ، وَاسْتِدْلَالِهِ عَلَى هَذَا بِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتِ الْجِزْيَةُ عَلَى بَعْضِهِمْ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ فِي حَقِّ الْكُلِّ، إِذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ!.
وَيُرَدُّ عَلَيْهِ (أَوَّلًا) أَنَّهُ لَا قَائِلَ أَيْضًا بِالْفَرْقِ بَيْنَ حُكْمِ الْقِتَالِ وَحُكْمِ الْجِزْيَةِ الَّذِي هُوَ غَايَةٌ لَهُ، فَلَيْتَ شِعْرِي مَاذَا يُفْعَلُ بِهِمْ إِذَا امْتَنَعُوا عَنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ؟ و(ثَانِيًا) أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِمَا قَالَهُ مِنْ تَقْسِيمِ الْيَهُودِ إِلَى مُجَسِّمَةٍ وَغَيْرِ مُجَسِّمَةٍ، وَأَنَّ غَيْرَ الْمُجَسِّمَةِ لَا يَدْخُلُونَ فِي حُكْمِ الْآيَةِ. و(ثَالِثًا) أَنَّهُ إِذَا قَامَ الدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ قَبُولُهُ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَوِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِهِ، وَجَعَلَ عَدَمَ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ سَبَبًا لِتَرْكِهِ!! و(رَابِعًا) أَنَّ الشِّرْكَ بِاللهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادَةِ كَالدُّعَاءِ مَعَ الْإِيمَانِ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَلَا حَالًّا فِي جِسْمٍ يُنَافِي إِيمَانَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِي دَعَوْا إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ النَّظَرِيَّاتِ الْكَلَامِيَّةَ صَرَفَتْهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَمَا يُقَالُ فِي الْمُوَحِّدِينَ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ فِي الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّصَارَى كَأَتْبَاعِ آرْيُوسَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْعَقْلِيِّينَ الْمُعَاصِرِينَ مِنْ أَهْلِ أُورُبَّةَ وَغَيْرِهِمْ، وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي سَائِرِ مَا اشْتُرِطَ فِي قِتَالِهِمْ.
وَأَمَّا مُخَالَفَةُ جَمَاهِيرِ النَّصَارَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلِجَمِيعِ كُتُبِ اللهِ وَرُسُلِهِ فِي الْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى، وَمَا يَجِبُ مِنْ تَوْحِيدِهِ فَهُوَ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرِيَّاتٍ كَلَامِيَّةٍ، فَأَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الرَّسْمِيَّةِ مِنْهُمْ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ بِأُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَيَعْبُدُونَهُ جَهْرًا بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، وَيَقُولُونَ بِالتَّثْلِيثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ أُمَّهُ مَرْيَمَ وَغَيْرَهَا مِنَ الرُّسُلِ وَالصَّالِحِينَ وَتَمَاثِيلِهِمْ، وَلَا يَعُدُّونَ الْمُوَحِّدِينَ مِنْهُمْ، وَهَؤُلَاءِ الْمُوَحِّدُونَ لَمْ يَبْلُغُوا أَنْ يَكُونُوا أُمَّةً، وَأُولِي دَوْلَةٍ، بَلْ هُمْ مُتَفَرِّقُونَ فِي جَمِيعِ أُمَمِهِمْ، مَعَ أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَاءَ مُصَدِّقًا لِلتَّوْرَاةِ فِي جَمِيعِ الْعَقَائِدِ، وَإِنَّمَا نَسَخَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، كَمَا نَقَلَ عَنْهُ رُوَاةُ الْأَنَاجِيلِ فِي قَوْلِهِ: مَا جِئْتُ لِأَنْقُضَ النَّامُوسَ، وَإِنَّمَا جِئْتُ لِأُتَمِّمَ وَأَوَّلُ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ التَّوْرَاةِ فِي الْإِيمَانِ التَّوْحِيدُ الْمُطْلَقُ، وَالْوَصِيَّةُ الْأُولَى مِنْ وَصَايَاهَا الْعَشْرِ الَّتِي هِيَ أَسَاسُ الدِّينِ التَّوْحِيدُ، وَالنَّهْيُ الصَّرِيحُ عَنِ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ، وَنَقَلُوا عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهُ الْحَقِيقِيُّ وَحْدَكَ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ، وَكَذَا تَفْسِيرِ سُورَتَيْ آلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ بِالشَّوَاهِدِ مِنْ كُتُبِهِمْ.
وَأَمَّا الْيَوْمُ الْآخِرُ فَالْفَرِيقَانِ يُخَالِفَانِ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَا الْمُوَحِّدُونَ مِنَ النَّصَارَى، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَقُولُونَ بِأَنَّ حَيَاةَ الْآخِرَةِ رُوحَانِيَّةٌ مَحْضَةٌ يَكُونُ فِيهَا أَهْلُهَا مِنَ النَّاسِ كَالْمَلَائِكَةِ، وَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ فِيهَا إِنْسَانًا لَا تَنْقَلِبُ حَقِيقَتُهُ، بَلْ يَبْقَى مُؤَلَّفًا مِنْ جَسَدٍ وَرُوحٍ، وَيَتَمَتَّعُ الْكَامِلُونَ النَّاجُونَ بِجَمِيعِ نَعِيمِ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَادِ، وَتَكُونُ أَرْوَاحُهُمْ أَقْوَى.
وَلَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي فِي أَيْدِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَيَانٌ صَرِيحٌ لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا فِيهَا وَفِي مَزَامِيرِ دَاوُدَ إِشَارَاتٌ غَيْرُ صَرِيحَةٍ.